القول في تأويل
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله : بِسْمِ .
قال أبو جعفر: إن الله تعالى ذكره وتقدَّست أسماؤه أدّب نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بتعليمه تقديمَ ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله، وتقدَّم إليه في وَصفه بها قبل جميع مُهمَّاته ، وجعل ما أدّبه به من ذلك وعلَّمه إياه، منه لجميع خلقه سُنَّةً يستَنُّون بها ، وسبيلا يتَّبعونه عليها، فبه افتتاح أوائل منطقهم ، وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم، حتى أغنت دلالة ما ظهر من قول القائل: « بسم الله » ، على من بطن من مراده الذي هو محذوف.
وذلك أن الباء من « بسم الله » مقتضية فعلا يكون لها جالبًا، ولا فعلَ معها ظاهرٌ، فأغنت سامعَ القائل « بسم الله » معرفتُه بمراد قائله، عن إظهار قائل ذلك مُرادَه قولا إذْ كان كل ناطق به عند افتتاحه أمرًا، قد أحضرَ منطقُه به - إمّا معه، وإمّا قبله بلا فصْلٍ- ما قد أغنى سامِعَه عن دلالةٍ شاهدةٍ على الذي من أجله افتتح قِيلَه به . فصار استغناءُ سامع ذلك منه عن إظهار ما حذف منه، نظيرَ استغنائه - إذا سمع قائلا قيل له: ما أكلت اليوم؟ فقال: « طعامًا » - عن أن يكرّر المسئُولُ مع قوله « طعامًا » ، أكلت، لما قد ظهر لديه من الدلالة على أن ذلك معناه ، بتقدُّم مسألة السائل إياه عما أكل. فمعقول إذًا أنّ قول القائل إذا قال: « بسم الله الرحمن الرحيم » ثم افتتح تاليًا سورةً، أن إتباعه « بسم الله الرحمن الرحيم » تلاوةَ السورة، يُنبئ عن معنى قوله: « بسم الله الرحمن الرحيم » ومفهومٌ به أنه مريد بذلك: أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. وكذلك قوله: « بسم الله » عند نهوضه للقيام أو عند قعوده وسائر أفعاله، ينبئ عن معنى مراده بقوله « بسم الله » ، وأنه أراد بقِيلِه « بسم الله » ، أقوم باسم الله، وأقعد باسم الله. وكذلك سائر الأفعال.
وهذا الذي قلنا في تأويل ذلك، هو معنى قول ابن عباس الذي:-
حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشرُ بن عُمَارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحّاك، عن عبد الله بن عباس، قال: إنَّ أول ما نـزل به جبريلُ على محمد، قال: « يا محمد، قُل: أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم » ثم قال: « قل بسم الله الرحمن الرحيم » . قال: قال له جبريل: قل بسم الله يا محمد، يقول: اقرأ بذكر الله ربك، وقم واقعد بذكر الله.
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فإن كان تأويلُ قوله « بسم الله » ما وصفتَ، والجالبُ الباءَ في « بسم الله » ما ذكرتَ، فكيف قيل « بسم الله » ، بمعنى أقرأ باسم الله ، أو أقوم أو أقعد باسم الله؟ وقد علمتَ أن كلَّ قارئٍ كتابَ الله، فبعَوْن الله وتوفيقه قراءتُه، وأن كل قائم أو قاعد أو فاعلٍ فعلا فبالله قيامُه وقعودُه وفعلُه. وهَلا - إذْ كان ذلك كذلك - قيل « بسم الله الرحمن الرحيم » ولم يَقُل « بسم الله » ؟ فإن قول القائل: أقوم وأقعد بالله الرحمن الرحيم، أو أقرأ بالله - أوضحُ معنى لسامعه من قوله « بسم الله » ، إذ كان قوله أقوم « أقوم أو أقعد باسم الله » ، يوهم سامعَه أن قيامه وقعوده بمعنى غيرِ الله.
قيل له، وبالله التوفيق: إن المقصودَ إليه من معنى ذلك غيرُ ما توهَّمته في نفسك. وإنما معنى قوله « بسم الله » : أبدأ بتسمية الله وذكره قبل كل شيء، أو أقرأ بتسميتي اللهَ ، أو أقوم وأقعد بتسميتي اللهَ وذكرِه - لا أنه يعني بقِيلِه « بسم الله » : أقوم بالله، أو أقرأ بالله، فيكونَ قولُ القائل: أقرأ بالله، أو أقوم أو أقعد بالله - أولى بوجه الصواب في ذلك من قوله « بسم الله » .
فإن قال: فإن كان الأمر في ذلك على ما وصفتَ، فكيف قيل: « بسم الله » وقد علمتَ أنّ الاسم اسمٌ، وأن التسمية مصدرٌ من قولك سَمَّيت؟
قيل: إن العربَ قد تخرج المصادرَ مبهمةً على أسماء مختلفة، كقولهم: أكرمتُ فلانًا كرامةً، وإنما بناءُ مصدر « أفعلتُ » - إذا أخرج على فعله - « الإفعالُ » . وكقولهم: أهنت فلانًا هَوانًا، وكلّمته كلامًا. وبناء مصدر: « فعَّلت » التفعيل. ومن ذلك قول الشاعر:
أَكُفْــرًا بعــد رَدِّ المَــوْتِ عَنِّـي وبعــد عَطَــائِكَ المِئَــةَ الرِّتَاعَـا
يريد: إعطائك. ومنه قول الآخر:
وَإن كـانَ هـذا البُخْـلُ منْـك سَجيةً لقـد كُـنْتُ فـي طَولِي رَجَاءكَ أَشْعَبَا
يريد: في إطالتي رجاءك. ومنه قول الآخر:
أَظُلَيْـــمُ إن مُصَـــابَكم رَجُــلا أَهْـــدَى السّــلامَ تحيَّــةً ظُلْــمُ
يريد: إصابتكم. والشواهد في هذا المعنى تكثُرُ، وفيما ذكرنا كفاية، لمن وُفِّق لفهمه.
فإذْ كان الأمر - على ما وصفنا، من إخراج العرب مصادرَ الأفعال على غير بناء أفعالها - كثيرًا، وكان تصديرها إياها على مخارج الأسماء موجودًا فاشيًا ، فبيِّنٌ بذلك صوابُ ما قلنا من التأويل في قول القائل « بسم الله » ، أن معناه في ذلك عند ابتدائه في فعل أو قول: أبدأ بتسمية الله، قبل فعلي، أو قبل قولي.
وكذلك معنى قول القائل عند ابتدائه بتلاوة القرآن: « بسم الله الرحمن الرحيم » ، إنما معناه: أقرأ مبتدئًا بتسمية الله، أو أبتدئ قراءتي بتسمية الله. فجُعِل « الاسمُ » مكان التسمية، كما جُعل الكلامُ مكان التكليم، والعطاءُ مكان الإعطاء.
وبمثل الذي قلنا من التأويل في ذلك، رُوِي الخبر عن عبد الله بن عباس.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، قال : حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: أوّل ما نـزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال: « يا محمد، قل: أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم » ، ثم قال: « قل: بسم الله الرحمن الرحيم » .
قال ابن عباس: « بسم الله » ، يقول له جبريلُ: يا محمد ، اقرأ بذكر الله ربِّك، وقم واقعد بذكر الله.
وهذا التأويل من ابن عباس ينبئ عن صحة ما قلنا - من أنه يراد بقول القائل مفتتحًا قراءته: « بسم الله الرحمن الرحيم » : أقرأ بتسمية الله وذكره، وأفتتح القراءة بتسمية الله، بأسمائه الحسنى وصفاته العُلَى - ويوضح فسادَ قول من زعم أن معنى ذلك من قائله: بالله الرحمن الرحيم أوّلِ كلِّ شيء ، مع أن العباد إنما أُمِروا أن يبتدئوا عند فواتح أمورِهم بتسمية الله، لا بالخبر عن عظمته وصفاته، كالذي أمِروا به من التسمية على الذبائح والصَّيد، وعند المَطعم والمَشرب، وسائر أفعالهم. وكذلك الذي أمِروا به من تسميته عند افتتاح تلاوة تنـزيل الله، وصدور رسائلهم وكتبهم.
ولا خلاف بين الجميع من علماء الأمة، أن قائلا لو قال عند تذكيته بعض بهائم الأنعام « بالله » ، ولم يقل « بسم الله » ، أنه مخالف - بتركه قِيلَ : « بسم الله » ما سُنَّ له عند التذكية من القول. وقد عُلم بذلك أنه لم يُرِدْ بقوله « بسم الله » « بالله » ، كما قال الزاعم أن اسمَ الله في قول الله: « بسم الله الرحمن الرحيم » هو الله. لأن ذلك لو كان كما زعم، لوجب أن يكون القائل عند تذكيته ذبيحتَه « بالله » ، قائلا ما سُنَّ له من القول على الذبيحة. وفي إجماع الجميع على أنّ قائلَ ذلك تارك ما سُنَّ له من القول على ذبيحته - إذْ لم يقل « بسم الله » - دليلٌ واضح على فساد ما ادَّعى من التأويل في قول القائل: « بسم الله » ، أنه مراد به « بالله » ، وأن اسم الله هو الله.
وليس هذا الموضع من مواضع الإكثار في الإبانة عن الاسم: أهُوَ المسمى، أمْ غيرُه، أم هو صفة له؟ فنطيل الكتاب به، وإنما هذا موضع من مواضع الإبانة عن الاسم المضاف إلى الله: أهو اسمٌ، أم مصدر بمعنى التسمية ؟ فإن قال قائل: فما أنت قائلٌ في بيت لبيد بن ربيعة:
إلَـى الحَـوْلِ , ثم اسْمُ السَّلام عليكُمَا, ومـن يَبْـكِ حَـوْلا كـاملا فَقَد اعتَذَرْ
فقد تأوله مُقدَّم في العلم بلغة العرب، أنه معني به: ثم السلام عليكما، وأن اسمَ السلام هو السلام؟
قيل له: لو جاز ذلك وصح تأويله فيه على ما تأوّل، لجاز أن يقال: رأيتُ اسم زيد، وأكلتُ اسمَ الطعام، وشربتُ اسمَ الشراب؛ وفي إجماع جميع العرب على إحالة ذلك ما ينبئ عن فساد تأويل من تأول قول لبيد: « ثمّ اسم السلام عليكما » ، أنه أراد: ثم السلام عليكما، وادِّعائه أن إدخال الاسم في ذلك وإضافتَه إلى السلام إنما جاز، إذْ كان اسم المسمَّى هو المسمَّى بعينه.
ويُسأل القائلون قولَ من حكينا قولَه هذا، فيقال لهم: أتستجيزون في العربية أن يقال: « أكلتُ اسمَ العسل » ، يعني بذلك: أكلت العسل، كما جاز عندكم: اسم السلام عليك، وأنتم تريدون: السلامُ عليك؟
فإن قالوا: نعم ! خرجوا من لسان العرب، وأجازوا في لغتها ما تخطِّئه جميع العرب في لغتها. وإن قالوا: لا سئلوا الفرقَ بينهما: فلن يقولوا في أحدهما قولا إلا أُلزموا في الآخر مثله.
فإن قال لنا قائل: فما معنى قول لبيد هذا عندك؟
قيل له: يحتمل ذلك وجهين، كلاهما غير الذي قاله من حكينا قوله.
أحدُهما: أن « السلام » اسمٌ من أسماء الله، فجائز أن يكون لبيد عنَى بقوله: « ثم اسم السلام عليكما » ، ثم الزما اسمَ الله وذكرَه بعد ذلك، وَدَعَا ذكري والبكاءَ عليّ؛ على وجه الإغراء. فرفعَ الاسم، إذْ أخّر الحرفَ الذي يأتي بمعنى الإغراء. وقد تفعَلُ العرب ذلك، إذا أخّرت الإغراء وقدمت المُغْرَى به، وإن كانت قد تنصبُ به وهو مؤخَّر. ومن ذلك قول الشاعر:
يَــا أَيُّهــا المـائحُ دَلـوِي دُونَكـا! إنــي رأيــتُ النَّـاس يَحْمدُونَكـا!
فأغرَى ب « دونك » ، وهي مؤخرة، وإنما معناه: دونَك دلوي. فذلك قول لبيد:
* إلى الحوْلِ, ثمَّ اسمُ السَّلامُ عَلَيْكُمَا *
يعني: عليكما اسمَ السلام، أي: الزما ذكر الله ودعا ذكري والوجدَ بي، لأن من بكى حَوْلا على امرئ ميّت فقد اعتذر. فهذا أحد وجهيه.
والوجه الآخر منهما: ثم تسميتي اللهَ عليكما، كما يقول القائل للشيء يراه فيعجبه: « اسم الله عليك » يعوِّذه بذلك من السوء، فكأنه قال: ثم اسمُ الله عليكما من السوء، وكأنّ الوجه الأول أشبه المعنيين بقول لبيد.
ويقال لمن وجه بيت لبيد هذا إلى أنّ معناه: ثم السلام عليكما، أترَى ما قلنا - من هذين الوجهين - جائزًا ، أو أحدهما، أو غيرَ ما قلتَ فيه؟
فإن قال: لا ! أبان مقدارَه من العلم بتصاريف وُجوه كلام العرب، وأغنى خصمه عن مناظرته.
وإن قال: بَلَى !
قيل له: فما برهانك على صحة ما ادَّعيت من التأويل أنه الصوابُ، دون الذي ذكرتَ أنه محتملُه - من الوجه الذي يلزمنا تسلميه لك؟ ولا سبيل إلى ذلك.
وأما الخبر الذي:-
حدثنا به إسماعيل بن الفضل، قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء بن الضحاك [ وهو يلقب بزبريق ] قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي مُليكة، عمن حدثه، عن ابن مسعود - ومِسْعَرِ بن كِدَام، عن عطية، عن أبي سعيد - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عيسى ابن مريم أسلمته أمُّه إلى الكتَّاب ليعلِّمه، فقال له المعلم: اكتب « بسم » فقال له عيسى: وما « بسم » ؟ فقال له المعلم: ما أدري ! فقال عيسى: الباء بهاءُ الله، والسين: سناؤه، والميم: مملكته.
فأخشى أنْ يكون غلطًا من المحدِّث، وأن يكون أراد [ ب س م ] ، على سبيل ما يعلَّم المبتدئ من الصبيان في الكتّاب حروف أبي جاد، فغلط بذلك، فوصَله، فقال: « بسم » ، لأنه لا معنى لهذا التأويل إذا تُلي « بسم الله الرحمن الرحيم » ، على ما يتلوه القارئ في كتاب الله، لاستحالة معناه على المفهوم به عند جميع العرب وأهل لسانها، إذا حُمِل تأويله على ذلك.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: اللَّهِ .
قال أبو جعفر: وأما تأويل قول الله تعالى ذكره « الله » ، فإنه على معنى ما رُوي لنا عن عبد الله بن عباس- : هو الذي يَألَهه كل شيء، ويعبده كل خلْقٍ.
وذلك أنّ أبا كريب حدثنا، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: « الله » ذو الألوهية والمَعْبودية على خلقه أجمعين.
فإن قال لنا قائل: فهل لذلك في « فعل ويفعل » أصل كان منه بناءُ هذا الاسم؟
قيل: أمّا سماعًا من العرب فلا ولكن استدلالا.
فإن قال: وما دلّ على أن الألوهية هي العبادة، وأنّ الإله هو المعبود، وأنّ له أصلا في « فعل ويفعل » .
قيل: لا تمانع بين العرب في الحكم لقول القائل - يصف رجلا بعبادة، وبطلب مما عند الله جل ذكره: « تألَّه فلان » - بالصحة ولا خلاف. ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج:
للــــهِ دَرُّ الغانِيـــات المُـــدَّهِ سَــبَّحْنَ واسْــتَرْجَعْنَ مِـن تَـأَلُّهِي
يعني: من تعبدي وطلبي اللهَ بعملي.
ولا شك أنّ « التألُّه » ، التفعُّل من: « ألَه يأله » ، وأن معنى « أله » - إذا نُطق به:- عَبَدَ اللهَ. وقد جاء منه مصدر يدل على أن العرب قد نطقت منه ب « فعل يفعل » يغير زيادة.
وذلك ما حدثنا به سفيان بن وكيع، قال حدثنا أبي، عن نافع بن عُمر، عن عَمرو بن دينار، عن ابن عباس: أنه قرأ ( وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ ) [ سورة الأعراف: 127 ] قال: عبادتَك، ويقال : إنه كان يُعبَد ولا يَعبُد.
حدثنا سفيان، قال: حدثنا ابن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن عمرو بن الحسن، عن ابن عباس: ( وَيَذَرَكَ وَإلاهَتَك ) ، قال: إنما كان فرعونُ يُعبَد ولا يَعبُد
وكذلك كان عبدُ الله يقرؤها ومجاهد.
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: أخبرني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: قوله « ويذرَكَ وإلاهتك » قال: وعبادتَك ولا شك أن الإلاهة - على ما فسره ابن عباس ومجاهد - مصدرٌ من قول القائل: ألَه اللهَ فلانٌ إلاهةً، كما يقال: عَبَد الله فلانٌ عبادةً، وعَبَرَ الرؤيا عبارةً. فقد بين قول ابن عباس ومجاهد هذا: أنّ « أله » عَبد، وأن « الإلاهة » مصدرُه.
فإن قال: فإن كان جائزًا أن يقال لمن عبد الله: ألهه - على تأويل قول ابن عباس ومجاهد - فكيف الواجبُ في ذلك أن يقال، إذا أراد المخبر الخبرَ عن استيجاب الله ذلك على عَبْده ؟
قيل: أما الروايةُ فلا رواية فيه عندنا، ولكن الواجب - على قياس ما جاء به الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي:-
حدثنا به إسماعيل بن الفضل، حدثنا إبراهيم بن العلاء، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي مُليكة، عمن حدثه عن ابن مسعود - ومِسْعَر بن كِدَام، عن عطية العَوْفي، عن أبي سعيد - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ عيسى أسلمَتْه أمه إلى الكتّاب ليعلّمه فقال له المعلم اكتب « الله » فقال له عيسى: « أتدري ما الله؟ الله إلهُ الآلهة » .
- أن يقال ، الله جل جلاله ألَهَ العبدَ، والعبدُ ألَهَه. وأنْ يكون قولُ القائل « الله » - من كلام العرب أصله « الإله » .
فإن قال: وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك، مع اختلاف لفظيهما؟
قيل: كما جاز أن يكون قوله: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي [ سورة الكهف : 38 ] أصله: لكن أنا، هو الله ربي، كما قال الشاعر:
وَتَـرْمِينَنِي بـالطَّرْف, أَيْ أَنـتَ مُذْنبٌ وتَقْلينَنــي, لكِــنَّ إيــاكِ لا أَقْـلِي
يريد: لكن أنا إياك لا أقلي، فحذَف الهمزة من « أنا » فالتقت نون « أنا » ونون « لكن » وهي ساكنة ، فأدغمت في نون « أنا » فصارتا نونًا مشددة. فكذلك « الله » أصله « الإله » ، أسقطت الهمزةُ التي هي فاء الاسم، فالتقت اللام التي هي عين الاسم، واللام الزائدة التي دخلت مع الألف الزائدة وهي ساكنة، فأدغمت في الأخرى التي هي عين الاسم، فصارتا في اللفظ لامًا واحدة مشددة ، كما وصفنا من قول الله لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي .
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله : بِسْمِ .
قال أبو جعفر: إن الله تعالى ذكره وتقدَّست أسماؤه أدّب نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بتعليمه تقديمَ ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله، وتقدَّم إليه في وَصفه بها قبل جميع مُهمَّاته ، وجعل ما أدّبه به من ذلك وعلَّمه إياه، منه لجميع خلقه سُنَّةً يستَنُّون بها ، وسبيلا يتَّبعونه عليها، فبه افتتاح أوائل منطقهم ، وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم، حتى أغنت دلالة ما ظهر من قول القائل: « بسم الله » ، على من بطن من مراده الذي هو محذوف.
وذلك أن الباء من « بسم الله » مقتضية فعلا يكون لها جالبًا، ولا فعلَ معها ظاهرٌ، فأغنت سامعَ القائل « بسم الله » معرفتُه بمراد قائله، عن إظهار قائل ذلك مُرادَه قولا إذْ كان كل ناطق به عند افتتاحه أمرًا، قد أحضرَ منطقُه به - إمّا معه، وإمّا قبله بلا فصْلٍ- ما قد أغنى سامِعَه عن دلالةٍ شاهدةٍ على الذي من أجله افتتح قِيلَه به . فصار استغناءُ سامع ذلك منه عن إظهار ما حذف منه، نظيرَ استغنائه - إذا سمع قائلا قيل له: ما أكلت اليوم؟ فقال: « طعامًا » - عن أن يكرّر المسئُولُ مع قوله « طعامًا » ، أكلت، لما قد ظهر لديه من الدلالة على أن ذلك معناه ، بتقدُّم مسألة السائل إياه عما أكل. فمعقول إذًا أنّ قول القائل إذا قال: « بسم الله الرحمن الرحيم » ثم افتتح تاليًا سورةً، أن إتباعه « بسم الله الرحمن الرحيم » تلاوةَ السورة، يُنبئ عن معنى قوله: « بسم الله الرحمن الرحيم » ومفهومٌ به أنه مريد بذلك: أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. وكذلك قوله: « بسم الله » عند نهوضه للقيام أو عند قعوده وسائر أفعاله، ينبئ عن معنى مراده بقوله « بسم الله » ، وأنه أراد بقِيلِه « بسم الله » ، أقوم باسم الله، وأقعد باسم الله. وكذلك سائر الأفعال.
وهذا الذي قلنا في تأويل ذلك، هو معنى قول ابن عباس الذي:-
حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشرُ بن عُمَارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحّاك، عن عبد الله بن عباس، قال: إنَّ أول ما نـزل به جبريلُ على محمد، قال: « يا محمد، قُل: أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم » ثم قال: « قل بسم الله الرحمن الرحيم » . قال: قال له جبريل: قل بسم الله يا محمد، يقول: اقرأ بذكر الله ربك، وقم واقعد بذكر الله.
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فإن كان تأويلُ قوله « بسم الله » ما وصفتَ، والجالبُ الباءَ في « بسم الله » ما ذكرتَ، فكيف قيل « بسم الله » ، بمعنى أقرأ باسم الله ، أو أقوم أو أقعد باسم الله؟ وقد علمتَ أن كلَّ قارئٍ كتابَ الله، فبعَوْن الله وتوفيقه قراءتُه، وأن كل قائم أو قاعد أو فاعلٍ فعلا فبالله قيامُه وقعودُه وفعلُه. وهَلا - إذْ كان ذلك كذلك - قيل « بسم الله الرحمن الرحيم » ولم يَقُل « بسم الله » ؟ فإن قول القائل: أقوم وأقعد بالله الرحمن الرحيم، أو أقرأ بالله - أوضحُ معنى لسامعه من قوله « بسم الله » ، إذ كان قوله أقوم « أقوم أو أقعد باسم الله » ، يوهم سامعَه أن قيامه وقعوده بمعنى غيرِ الله.
قيل له، وبالله التوفيق: إن المقصودَ إليه من معنى ذلك غيرُ ما توهَّمته في نفسك. وإنما معنى قوله « بسم الله » : أبدأ بتسمية الله وذكره قبل كل شيء، أو أقرأ بتسميتي اللهَ ، أو أقوم وأقعد بتسميتي اللهَ وذكرِه - لا أنه يعني بقِيلِه « بسم الله » : أقوم بالله، أو أقرأ بالله، فيكونَ قولُ القائل: أقرأ بالله، أو أقوم أو أقعد بالله - أولى بوجه الصواب في ذلك من قوله « بسم الله » .
فإن قال: فإن كان الأمر في ذلك على ما وصفتَ، فكيف قيل: « بسم الله » وقد علمتَ أنّ الاسم اسمٌ، وأن التسمية مصدرٌ من قولك سَمَّيت؟
قيل: إن العربَ قد تخرج المصادرَ مبهمةً على أسماء مختلفة، كقولهم: أكرمتُ فلانًا كرامةً، وإنما بناءُ مصدر « أفعلتُ » - إذا أخرج على فعله - « الإفعالُ » . وكقولهم: أهنت فلانًا هَوانًا، وكلّمته كلامًا. وبناء مصدر: « فعَّلت » التفعيل. ومن ذلك قول الشاعر:
أَكُفْــرًا بعــد رَدِّ المَــوْتِ عَنِّـي وبعــد عَطَــائِكَ المِئَــةَ الرِّتَاعَـا
يريد: إعطائك. ومنه قول الآخر:
وَإن كـانَ هـذا البُخْـلُ منْـك سَجيةً لقـد كُـنْتُ فـي طَولِي رَجَاءكَ أَشْعَبَا
يريد: في إطالتي رجاءك. ومنه قول الآخر:
أَظُلَيْـــمُ إن مُصَـــابَكم رَجُــلا أَهْـــدَى السّــلامَ تحيَّــةً ظُلْــمُ
يريد: إصابتكم. والشواهد في هذا المعنى تكثُرُ، وفيما ذكرنا كفاية، لمن وُفِّق لفهمه.
فإذْ كان الأمر - على ما وصفنا، من إخراج العرب مصادرَ الأفعال على غير بناء أفعالها - كثيرًا، وكان تصديرها إياها على مخارج الأسماء موجودًا فاشيًا ، فبيِّنٌ بذلك صوابُ ما قلنا من التأويل في قول القائل « بسم الله » ، أن معناه في ذلك عند ابتدائه في فعل أو قول: أبدأ بتسمية الله، قبل فعلي، أو قبل قولي.
وكذلك معنى قول القائل عند ابتدائه بتلاوة القرآن: « بسم الله الرحمن الرحيم » ، إنما معناه: أقرأ مبتدئًا بتسمية الله، أو أبتدئ قراءتي بتسمية الله. فجُعِل « الاسمُ » مكان التسمية، كما جُعل الكلامُ مكان التكليم، والعطاءُ مكان الإعطاء.
وبمثل الذي قلنا من التأويل في ذلك، رُوِي الخبر عن عبد الله بن عباس.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، قال : حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: أوّل ما نـزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال: « يا محمد، قل: أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم » ، ثم قال: « قل: بسم الله الرحمن الرحيم » .
قال ابن عباس: « بسم الله » ، يقول له جبريلُ: يا محمد ، اقرأ بذكر الله ربِّك، وقم واقعد بذكر الله.
وهذا التأويل من ابن عباس ينبئ عن صحة ما قلنا - من أنه يراد بقول القائل مفتتحًا قراءته: « بسم الله الرحمن الرحيم » : أقرأ بتسمية الله وذكره، وأفتتح القراءة بتسمية الله، بأسمائه الحسنى وصفاته العُلَى - ويوضح فسادَ قول من زعم أن معنى ذلك من قائله: بالله الرحمن الرحيم أوّلِ كلِّ شيء ، مع أن العباد إنما أُمِروا أن يبتدئوا عند فواتح أمورِهم بتسمية الله، لا بالخبر عن عظمته وصفاته، كالذي أمِروا به من التسمية على الذبائح والصَّيد، وعند المَطعم والمَشرب، وسائر أفعالهم. وكذلك الذي أمِروا به من تسميته عند افتتاح تلاوة تنـزيل الله، وصدور رسائلهم وكتبهم.
ولا خلاف بين الجميع من علماء الأمة، أن قائلا لو قال عند تذكيته بعض بهائم الأنعام « بالله » ، ولم يقل « بسم الله » ، أنه مخالف - بتركه قِيلَ : « بسم الله » ما سُنَّ له عند التذكية من القول. وقد عُلم بذلك أنه لم يُرِدْ بقوله « بسم الله » « بالله » ، كما قال الزاعم أن اسمَ الله في قول الله: « بسم الله الرحمن الرحيم » هو الله. لأن ذلك لو كان كما زعم، لوجب أن يكون القائل عند تذكيته ذبيحتَه « بالله » ، قائلا ما سُنَّ له من القول على الذبيحة. وفي إجماع الجميع على أنّ قائلَ ذلك تارك ما سُنَّ له من القول على ذبيحته - إذْ لم يقل « بسم الله » - دليلٌ واضح على فساد ما ادَّعى من التأويل في قول القائل: « بسم الله » ، أنه مراد به « بالله » ، وأن اسم الله هو الله.
وليس هذا الموضع من مواضع الإكثار في الإبانة عن الاسم: أهُوَ المسمى، أمْ غيرُه، أم هو صفة له؟ فنطيل الكتاب به، وإنما هذا موضع من مواضع الإبانة عن الاسم المضاف إلى الله: أهو اسمٌ، أم مصدر بمعنى التسمية ؟ فإن قال قائل: فما أنت قائلٌ في بيت لبيد بن ربيعة:
إلَـى الحَـوْلِ , ثم اسْمُ السَّلام عليكُمَا, ومـن يَبْـكِ حَـوْلا كـاملا فَقَد اعتَذَرْ
فقد تأوله مُقدَّم في العلم بلغة العرب، أنه معني به: ثم السلام عليكما، وأن اسمَ السلام هو السلام؟
قيل له: لو جاز ذلك وصح تأويله فيه على ما تأوّل، لجاز أن يقال: رأيتُ اسم زيد، وأكلتُ اسمَ الطعام، وشربتُ اسمَ الشراب؛ وفي إجماع جميع العرب على إحالة ذلك ما ينبئ عن فساد تأويل من تأول قول لبيد: « ثمّ اسم السلام عليكما » ، أنه أراد: ثم السلام عليكما، وادِّعائه أن إدخال الاسم في ذلك وإضافتَه إلى السلام إنما جاز، إذْ كان اسم المسمَّى هو المسمَّى بعينه.
ويُسأل القائلون قولَ من حكينا قولَه هذا، فيقال لهم: أتستجيزون في العربية أن يقال: « أكلتُ اسمَ العسل » ، يعني بذلك: أكلت العسل، كما جاز عندكم: اسم السلام عليك، وأنتم تريدون: السلامُ عليك؟
فإن قالوا: نعم ! خرجوا من لسان العرب، وأجازوا في لغتها ما تخطِّئه جميع العرب في لغتها. وإن قالوا: لا سئلوا الفرقَ بينهما: فلن يقولوا في أحدهما قولا إلا أُلزموا في الآخر مثله.
فإن قال لنا قائل: فما معنى قول لبيد هذا عندك؟
قيل له: يحتمل ذلك وجهين، كلاهما غير الذي قاله من حكينا قوله.
أحدُهما: أن « السلام » اسمٌ من أسماء الله، فجائز أن يكون لبيد عنَى بقوله: « ثم اسم السلام عليكما » ، ثم الزما اسمَ الله وذكرَه بعد ذلك، وَدَعَا ذكري والبكاءَ عليّ؛ على وجه الإغراء. فرفعَ الاسم، إذْ أخّر الحرفَ الذي يأتي بمعنى الإغراء. وقد تفعَلُ العرب ذلك، إذا أخّرت الإغراء وقدمت المُغْرَى به، وإن كانت قد تنصبُ به وهو مؤخَّر. ومن ذلك قول الشاعر:
يَــا أَيُّهــا المـائحُ دَلـوِي دُونَكـا! إنــي رأيــتُ النَّـاس يَحْمدُونَكـا!
فأغرَى ب « دونك » ، وهي مؤخرة، وإنما معناه: دونَك دلوي. فذلك قول لبيد:
* إلى الحوْلِ, ثمَّ اسمُ السَّلامُ عَلَيْكُمَا *
يعني: عليكما اسمَ السلام، أي: الزما ذكر الله ودعا ذكري والوجدَ بي، لأن من بكى حَوْلا على امرئ ميّت فقد اعتذر. فهذا أحد وجهيه.
والوجه الآخر منهما: ثم تسميتي اللهَ عليكما، كما يقول القائل للشيء يراه فيعجبه: « اسم الله عليك » يعوِّذه بذلك من السوء، فكأنه قال: ثم اسمُ الله عليكما من السوء، وكأنّ الوجه الأول أشبه المعنيين بقول لبيد.
ويقال لمن وجه بيت لبيد هذا إلى أنّ معناه: ثم السلام عليكما، أترَى ما قلنا - من هذين الوجهين - جائزًا ، أو أحدهما، أو غيرَ ما قلتَ فيه؟
فإن قال: لا ! أبان مقدارَه من العلم بتصاريف وُجوه كلام العرب، وأغنى خصمه عن مناظرته.
وإن قال: بَلَى !
قيل له: فما برهانك على صحة ما ادَّعيت من التأويل أنه الصوابُ، دون الذي ذكرتَ أنه محتملُه - من الوجه الذي يلزمنا تسلميه لك؟ ولا سبيل إلى ذلك.
وأما الخبر الذي:-
حدثنا به إسماعيل بن الفضل، قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء بن الضحاك [ وهو يلقب بزبريق ] قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي مُليكة، عمن حدثه، عن ابن مسعود - ومِسْعَرِ بن كِدَام، عن عطية، عن أبي سعيد - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عيسى ابن مريم أسلمته أمُّه إلى الكتَّاب ليعلِّمه، فقال له المعلم: اكتب « بسم » فقال له عيسى: وما « بسم » ؟ فقال له المعلم: ما أدري ! فقال عيسى: الباء بهاءُ الله، والسين: سناؤه، والميم: مملكته.
فأخشى أنْ يكون غلطًا من المحدِّث، وأن يكون أراد [ ب س م ] ، على سبيل ما يعلَّم المبتدئ من الصبيان في الكتّاب حروف أبي جاد، فغلط بذلك، فوصَله، فقال: « بسم » ، لأنه لا معنى لهذا التأويل إذا تُلي « بسم الله الرحمن الرحيم » ، على ما يتلوه القارئ في كتاب الله، لاستحالة معناه على المفهوم به عند جميع العرب وأهل لسانها، إذا حُمِل تأويله على ذلك.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: اللَّهِ .
قال أبو جعفر: وأما تأويل قول الله تعالى ذكره « الله » ، فإنه على معنى ما رُوي لنا عن عبد الله بن عباس- : هو الذي يَألَهه كل شيء، ويعبده كل خلْقٍ.
وذلك أنّ أبا كريب حدثنا، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: « الله » ذو الألوهية والمَعْبودية على خلقه أجمعين.
فإن قال لنا قائل: فهل لذلك في « فعل ويفعل » أصل كان منه بناءُ هذا الاسم؟
قيل: أمّا سماعًا من العرب فلا ولكن استدلالا.
فإن قال: وما دلّ على أن الألوهية هي العبادة، وأنّ الإله هو المعبود، وأنّ له أصلا في « فعل ويفعل » .
قيل: لا تمانع بين العرب في الحكم لقول القائل - يصف رجلا بعبادة، وبطلب مما عند الله جل ذكره: « تألَّه فلان » - بالصحة ولا خلاف. ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج:
للــــهِ دَرُّ الغانِيـــات المُـــدَّهِ سَــبَّحْنَ واسْــتَرْجَعْنَ مِـن تَـأَلُّهِي
يعني: من تعبدي وطلبي اللهَ بعملي.
ولا شك أنّ « التألُّه » ، التفعُّل من: « ألَه يأله » ، وأن معنى « أله » - إذا نُطق به:- عَبَدَ اللهَ. وقد جاء منه مصدر يدل على أن العرب قد نطقت منه ب « فعل يفعل » يغير زيادة.
وذلك ما حدثنا به سفيان بن وكيع، قال حدثنا أبي، عن نافع بن عُمر، عن عَمرو بن دينار، عن ابن عباس: أنه قرأ ( وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ ) [ سورة الأعراف: 127 ] قال: عبادتَك، ويقال : إنه كان يُعبَد ولا يَعبُد.
حدثنا سفيان، قال: حدثنا ابن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن عمرو بن الحسن، عن ابن عباس: ( وَيَذَرَكَ وَإلاهَتَك ) ، قال: إنما كان فرعونُ يُعبَد ولا يَعبُد
وكذلك كان عبدُ الله يقرؤها ومجاهد.
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: أخبرني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: قوله « ويذرَكَ وإلاهتك » قال: وعبادتَك ولا شك أن الإلاهة - على ما فسره ابن عباس ومجاهد - مصدرٌ من قول القائل: ألَه اللهَ فلانٌ إلاهةً، كما يقال: عَبَد الله فلانٌ عبادةً، وعَبَرَ الرؤيا عبارةً. فقد بين قول ابن عباس ومجاهد هذا: أنّ « أله » عَبد، وأن « الإلاهة » مصدرُه.
فإن قال: فإن كان جائزًا أن يقال لمن عبد الله: ألهه - على تأويل قول ابن عباس ومجاهد - فكيف الواجبُ في ذلك أن يقال، إذا أراد المخبر الخبرَ عن استيجاب الله ذلك على عَبْده ؟
قيل: أما الروايةُ فلا رواية فيه عندنا، ولكن الواجب - على قياس ما جاء به الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي:-
حدثنا به إسماعيل بن الفضل، حدثنا إبراهيم بن العلاء، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي مُليكة، عمن حدثه عن ابن مسعود - ومِسْعَر بن كِدَام، عن عطية العَوْفي، عن أبي سعيد - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ عيسى أسلمَتْه أمه إلى الكتّاب ليعلّمه فقال له المعلم اكتب « الله » فقال له عيسى: « أتدري ما الله؟ الله إلهُ الآلهة » .
- أن يقال ، الله جل جلاله ألَهَ العبدَ، والعبدُ ألَهَه. وأنْ يكون قولُ القائل « الله » - من كلام العرب أصله « الإله » .
فإن قال: وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك، مع اختلاف لفظيهما؟
قيل: كما جاز أن يكون قوله: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي [ سورة الكهف : 38 ] أصله: لكن أنا، هو الله ربي، كما قال الشاعر:
وَتَـرْمِينَنِي بـالطَّرْف, أَيْ أَنـتَ مُذْنبٌ وتَقْلينَنــي, لكِــنَّ إيــاكِ لا أَقْـلِي
يريد: لكن أنا إياك لا أقلي، فحذَف الهمزة من « أنا » فالتقت نون « أنا » ونون « لكن » وهي ساكنة ، فأدغمت في نون « أنا » فصارتا نونًا مشددة. فكذلك « الله » أصله « الإله » ، أسقطت الهمزةُ التي هي فاء الاسم، فالتقت اللام التي هي عين الاسم، واللام الزائدة التي دخلت مع الألف الزائدة وهي ساكنة، فأدغمت في الأخرى التي هي عين الاسم، فصارتا في اللفظ لامًا واحدة مشددة ، كما وصفنا من قول الله لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي .
Tidak ada komentar:
Posting Komentar